الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}. قِيلَ: هَذَا تَعْزِيَةٌ لِلْمُشْتَاقِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ. أَيْ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَائِي فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَيَّ. فَقَدْ أَجَّلْتُ لَهُ أَجَلًا يَكُونُ عَنْ قَرِيبٍ. فَإِنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ. وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى. وَهِيَ تَعْلِيلُ الْمُشْتَاقِينَ بِرَجَاءِ اللِّقَاءِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَائِمَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ. لَمْ يَسْكُنْ شَوْقُهُ إِلَى لِقَائِهِ قَطُّ. وَلَكِنَّ الشَّوْقَ مَائَةُ جُزْءٍ. تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لَهُ. وَجُزْءٌ مَقْسُومٌ عَلَى الْأُمَّةِ. فَأَرَادَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مُضَافًا إِلَى مَا لَهُ مِنَ الشَّوْقِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [الشَّوْقُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ]: وَقِيلَ: هُوَ اهْتِيَاجُ الْقُلُوبِ إِلَى لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَقِيلَ: هُوَ احْتِرَاقُ الْأَحْشَاءِ. وَمِنْهَا يَتَهَيَّجُ وَيَتَوَلَّدُ، وَيُلْهِبُ الْقُلُوبَ وَيُقَطِّعُ الْأَكْبَادَ. وَالْمَحَبَّةُ أَعْلَى مِنْهُ. لِأَنَّ الشَّوْقَ عَنْهَا يَتَوَلَّدُ، وَعَلَى قَدْرِهَا يَقْوَى وَيَضْعُفُ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: عَلَامَةُ الشَّوْقِ فِطَامُ الْجَوَارِحِ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: عَلَامَتُهُ حُبُّ الْمَوْتِ مَعَ الرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ، كَحَالِ يُوسُفَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا أُدْخِلَ السِّجْنَ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا تَمَّ لَهُ الْأَمْرُ وَالْأَمْنُ وَالنِّعْمَةُ، قَالَ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}. قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الشَّوْقُ ارْتِيَاحُ الْقُلُوبِ بِالْوَجْدِ، وَمَحَبَّةُ اللِّقَاءِ بِالْقُرْبِ. وَقِيلَ: هُوَ لَهَبٌ يَنْشَأُ بَيْنَ أَثْنَاءِ الْحَشَا، يَسْنَحُ عَنِ الْفُرْقَةِ. فَإِذَا وَقَعَ اللِّقَاءُ طُفِئَ. قُلْتُ: هَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ. وَهِيَ: أَنَّ الشَّوْقَ هَلْ يَزُولُ بِاللِّقَاءِ أَمْ لَا؟ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَزُولُ بِاللِّقَاءِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. لِأَنَّ الشَّوْقَ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ، صَارَ مَكَانَ الشَّوْقِ قُرَّةُ عَيْنِهِ بِهِ. وَهَذِهِ الْقُرَّةُ تُجَامِعُ الْمَحَبَّةَ وَلَا تُنَافِيهَا. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْقَلْبِ مُشَاهَدَةَ الْمَحْبُوبِ، لَمْ يَطْرُقْهُ الشَّوْقُ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. إِنَّمَا الشَّوْقُ إِلَى غَائِبٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ، وَلَا يَزُولُ. لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوُصُولِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَبَعْدَهُ: قَدْ صَارَ عَلَى الْعِيَانِ وَالشُّهُودِ. وَلِهَذَا قِيلَ: قَالَ الْجُنَيْدُ: سَمِعْتُ السَّرِيَّ يَقُولُ: الشَّوْقُ أَجَلُّ مَقَامٍ لِلْعَارِفِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ. وَإِذَا تَحَقَّقَ فِي الشَّوْقِ لَهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَمَّنْ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا: فَأَهْلُ الْجَنَّةِ دَائِمًا فِي شَوْقٍ إِلَى اللَّهِ، مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ. قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشَّوْقَ يَكُونُ حَالَ اللِّقَاءِ أَعْظَمَ: أَنَّا نَرَى الْمُحِبَّ يَبْكِي عِنْدَ لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ. وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَوَجْدِهِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَجِدُ عِنْدَ لِقَائِهِ نَوْعًا مِنَ الشَّوْقِ لَمْ يَجِدْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ. .فَصْلٌ: [الشَّوْقُ: يُرَادُ بِهِ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُهُلِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ]: وَبَعْضُهُمْ سَمَّى النَّوْعَ الْأَوَّلَ: شَوْقًا. وَالثَّانِيَ: اشْتِيَاقًا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْقِ وَالِاشْتِيَاقِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَيَقُولُ: الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاءِ. وَالِاشْتِيَاقُ لَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ. قَالَ: وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا: وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ: لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَقَامُ الشَّوْقِ. وَلَيْسَ لَهُمْ مَقَامُ الِاشْتِيَاقِ. وَمَنْ دَخَلَ فِي حَالِ الِاشْتِيَاقِ هَامَ فِيهِ حَتَّى لَا يُرَى لَهُ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا قَرَارٌ. قَالَ الدَّقَّاقُ- فِي قَوْلِ مُوسَى {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قَالَ: مَعْنَاهُ شَوْقًا إِلَيْكَ. فَسَتَرَهُ بِلَفْظِ الرِّضَا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ يَتَحَسَّوْنَ حَلَاوَةَ الْقُرْبِ عِنْدَ وُرُودِهِ- لِمَا قَدْ كُشِفَ لَهُمْ مِنْ رُوحِ الْوُصُولِ- أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ. فَهُمْ فِي سَكَرَاتِهِ فِي أَعْظَمِ لَذَّةٍ وَحَلَاوَةٍ. وَقِيلَ: مَنِ اشْتَاقَ إِلَى اللَّهِ اشْتَاقَ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا أَدْخُلُ فِي الشَّوْقِ وَالْأَشْيَاءُ تَشْتَاقُ إِلَيَّ. وَأَتَأَخَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ: وَكَانَتْ عَجُوزٌ مُغَيَّبَةٌ. فَقَدِمَ غَائِبُهَا مِنَ السَّفَرِ. فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَقَعَدَتْ هِيَ تَبْكِي. فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَتْ: ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: خَرَجَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ مُنْفَرِدًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: مَا لِي أَرَاكَ مُنْفَرِدًا؟ فَقَالَ: إِلَهِي اسْتَأْثَرَ شَوْقِي إِلَى لِقَائِكَ عَلَى قَلْبِي. فَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صُحْبَةِ الْخَلْقِ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ. فَإِنَّكَ إِنْ أَتَيْتَنِي بِعَبْدٍ آبِقٍأُثْبِتْكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جَهْبَذًا. .فَصْلٌ: [الشَّوْقُ: هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ]: الشَّوْقُ: هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ. وَفِي مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: عِلَّةُ الشَّوْقِ هَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِاللِّقَاءِ؟. عَظِيمَةٌ. فَإِنَّ الشَّوْقَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى الْغَائِبِ. وَمَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ. وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَنْطِقِ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ. قُلْتُ: هُوَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الرَّجَاءَ شَوْقًا بِلِسَانِ الِاعْتِبَارِ لَا بِلِسَانِ التَّفْسِيرِ. أَوْ أَنَّ دَلَالَةَ الرَّجَاءِ عَلَى الشَّوْقِ بِاللُّزُومِ، لَا بِالتَّضَمُّنِ وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ. قَوْلُهُ هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ يَعْنِي: سَفَرَهُ إِلَيْهِ، وَهُوِيَّهُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الشَّوْقِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الشَّوْقَ فِي حَالِ اللِّقَاءِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الْمَغِيبِ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: لَا عِلَّةَ فِيهِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ سَفَرَ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَعَلَى قَوْلِهِ: يَجِيءُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ. وَوَجْهُهُ مَفْهُومٌ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّ مَذْهَبَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ- الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ- يُرِيدُ: أَنَّ الْفَنَاءَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ. فَإِنَّ بِدَايَتَهُ- كَمَا قَرَّرَهُ هُوَ- الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ. وَالْفَنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. وَمَعَ الْمُشَاهَدَةِ لَا عَمَلَ لِلشَّوْقِ. فَيُقَالُ: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ لَا تُزِيلُ الشَّوْقَ بَلْ تَزِيدُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا مُشَاهَدَةَ أَكْمَلُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ- وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ- أَشْوَقُ شَيْءٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ هُمْ أَشْوَقُ شَيْءٍ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ تَعَالَى وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ. فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ إِنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً: مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. وَمَعْلُومٌ قَطْعًا: أَنَّ شَوْقَ هَذَا إِلَى الرُّؤْيَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا أَعْظَمُ شَوْقٍ يُقَدَّرُ، وَحُصُولُ الْمُشَاهَدَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَتَمُّ مِنْهَا لِأَهْلِ الدُّنْيَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةٍ تُزِيلُ الشَّوْقَ أَلْبَتَّةَ. وَمَنِ ادَّعَى هَذَا فَقَدَ كَذَبَ وَافْتَرَى. فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. كَلِيمِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ. فَمَا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الَّتِي مَبْنَى مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَيْهَا. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَعَهَا شَوْقٌ؟ أَهِيَ كَمَالُ الْمُشَاهَدَةِ عِيَانًا وَجَهْرَةً؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. أَمْ نَوْعٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَلْبِ لِمَعْرُوفِهِ، مَعَ اقْتِرَانِهَا بِالْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ تَمْنَعُ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الشَّوْقَ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا؟ وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا بِالْعَكْسِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَالْحَقِيقَةِ. لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ مَحْبُوبَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. كَانَ شَوْقُهُ إِلَى كَمَالِ مُشَاهَدَتِهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ. وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ الْجُزْئِيَّةُ سَبَبًا لِاشْتِيَاقِهِ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا. فَأَيْنَ الْعِلَّةُ فِي الشَّوْقِ؟ وَأَيْنَ الْمُشَاهَدَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الشَّوْقِ؟ وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ ظَاهِرٌ. وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ كَانَ مُكَابِرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الشَّوْقِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ]: يَعْنِي: شَوْقَ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيهِ هَذِهِ الْحِكَمُ الثَّلَاثُ. أَحَدُهَا: حُصُولُ الْأَمْنِ الْبَاعِثِ عَلَى الْأَمَلِ. فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَنْبَعِثُ صَاحِبُهُ لِعَمَلٍ أَلْبَتَّةَ إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ أَمَلٌ. فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُ قُطِعَ وَصَارَ قَنُوطًا. الثَّانِي: فَرَحُ الْحَزِينِ. فَإِنَّ الْحُزْنَ الْمُجَرَّدَ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْفَرَحُ قَتَلَ صَاحِبَهُ. فَلَوْلَا رُوحُ الْفَرَحِ لَتَعَطَّلَتْ قُوَى الْحَزِينِ وَقَعَدَ حُزْنُهُ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا قَعَدَ بِهِ الْحُزْنُ قَامَ بِهِ رُوحُ الْفَرَحِ. الثَّالِثُ: رُوحُ الظَّفَرِ. فَإِنَّ الْآمِلَ إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ رُوحُ الظَّفَرِ مَاتَ أَمَلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ]: الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الشَّوْقَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَإِنَّ أَطْيَبَ مَا فِي الْجَنَّةِ: قُرْبُهُ تَعَالَى، وَرُؤْيَتُهُ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ. نَعَمْ. الشَّوْقُ إِلَى مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ نَاقِصٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَوْقِ الْمُحِبِّينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ. وَهَذَا الشَّوْقُ دَرَجَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: شَوْقٌ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي سَبَبُهُ الْإِحْسَانُ وَالْمِنَّةُ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ. فَسَبَبُهُ مُطَالَعَةُ مِنَّةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الْإِحْسَانِ وَالْآلَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ تَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ أَيْ جَوَانِبِهِ: إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَنَّهَا مِنْ نَبَاتِ الْحَافَّاتِ الَّتِي هِيَ جَوَانِبُ الْمِنَنِ. لَا مِنْ نَبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَوْلُهُ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ يَعْنِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمِنَنِ وَالْإِحْسَانِ. كَالْبَرِّ وَالْمَنَّانِ، وَالْمُحْسِنِ، وَالْجَوَادِ، وَالْمُعْطِي، وَالْغَفُورِ، وَنَحْوِهَا. وَقَوْلُهُ الْمُقَدَّسَةُ يَعْنِي الْمُطَهَّرَةَ الْمُنَزَّهَةَ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَشْبِيهِ الْمُمَثِّلِينَ وَتَعَطُّلِ الْمُعَطِّلِينَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مُرَادَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْخَاصَّةُ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالصِّفَاتِ الْعَامَّةِ: إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ثَمَرَةَ هَذَا التَّعَلُّقِ شَوْقَ الْعَبْدِ إِلَى مُعَايَنَةِ لَطَائِفِ كَرَمِ الرَّبِّ وَمِنَنِهِ وَإِحْسَانِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ. وَهِيَ عَلَامَاتُ بِرِّهِ بِالْعَبْدِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَعْلَامُ فَضْلِهِ وَهُوَ مَا يُفْضِلُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيُفَضِّلُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ يَعْنِي: أَنَّهُ شَوْقٌ مَعْلُولٌ. لَيْسَ خَالِصًا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ. بَلْ لِمَا يَنَالُ مِنْهُ مِنَ الْمَبَارِّ فَقَدْ غَشِيَتْهُ أَيْ أَدْرَكَتْهُ الْمَبَارُّ. قَوْلُهُ وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ أَيْ تَجَاذَبُهُ. فَإِنَّ الْمُخَالَجَةَ هِيَ الْمُجَاذَبَةُ. فَإِذَا خَالَطَ هَذَا الشَّوْقَ الْفَرَحُ: كَانَ مَمْزُوجًا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَظِّ. وَقَوْلُهُ وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ أَيْ أَنَّ صَاحِبَهُ يَقْوَى عَلَى الصَّبْرِ، فَيُقَاوِمُ صَبْرُهُ شَوْقَهُ وَلَا يَغْلِبُهُ، بِخِلَافِ الشَّوْقِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّوْقُ الْخَالِصُ]: يُرِيدُ: أَنَّ الشَّوْقَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: شَبِيهٌ بِالنَّارِ الَّتِي أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ. وَهُوَ خَالِصُهَا. وَشَبَّهَهُ بِالنَّارِ لِالْتِهَابِهِ فِي الْأَحْشَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ الْمِنَّةِ وَالنِّعَمِ. وَلَكِنْ مَحَبَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. قَوْلُهُ فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ أَيْ مَنَعَتْ صَاحِبَهَا السُّكُونَ إِلَى لَذِيذِ الْعَيْشِ. وَالتَّنْغِيصُ قَرِيبٌ مِنَ التَّكْدِيرِ. قَوْلُهُ وَسَلَبَتِ السَّلْوَةَ أَيْ نَهَبَتِ السُّلُوَّ وَأَخَذَتْهُ قَهْرًا. وَالسَّلْوَةُ هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ كَرْبِ الْمَحَبَّةِ وَإِلْقَاءُ حِمْلِهَا عَنِ الظَّهْرِ. وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَحْبُوبِ تَنَاسِيًا. وَقَوْلُهُ لَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ أَيْ لَمْ يَكْفِهَا وَيَرُدَّهَا قَرَارٌ دُونَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَهَذِهِ لَا يُقَاوِمُهَا الِاصْطِبَارُ. لِأَنَّهُ لَا يَكُفُّهَا دُونَ لِقَاءِ مَنْ يُحِبُّ قَرَارٌ. .فَصْلٌ: الْقَلَقُ: وَظَاهِرُ الْآيَةِ: أَنَّ الْحَامِلَ لِمُوسَى عَلَى الْعَجَلَةِ: هُوَ طَلَبُ رِضَا رَبِّهِ، وَأَنَّ رِضَاهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَالْعَجَلَةِ إِلَيْهَا. وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَذْكُرُ ذَلِكَ. قَالَ: إِنَّ رِضَا الرَّبِّ فِي الْعَجَلَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ. ثُمَّ حَدَّهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ بِإِسْقَاطِ الصَّبْرِ أَيْ تَخَلُّصِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ مَعَهُ الصَّبْرُ، فَإِنْ قَارَنَهُ اصْطِبَارٌ فَهُوَ شَوْقٌ. .[دَرَجَاتُ الْقَلَقِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ، وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ، وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ]: يَعْنِي: يَضِيقُ خُلُقُ صَاحِبِهِ عَنِ احْتِمَالِ الْأَغْيَارِ. فَلَا يُبْقِي فِيهِ اتِّسَاعًا لِحَمْلِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَقْيِيدِهِمْ لَهُ، وَتَعُوقَهُ بِأَنْفَاسِهِمْ. وَيُبْغِضُ الْخَلْقَ يَعْنِي: لَا شَيْءَ أَبْغَضَ إِلَى صَاحِبِهِ مِنِ اجْتِمَاعِهِ بِالْخَلْقِ. لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ حَالِهِ وَبَيْنَ خُلْطَتِهِمْ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَقَارِبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: كَانَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَخْرُجُ أَحْيَانًا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَخْلُو عَنِ النَّاسِ، لِقُوَّةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ. فَتَبِعْتُهُ يَوْمًا فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ. ثُمَّ جَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ- وَهُوَ لِمَجْنُونِ لَيْلَى مِنْ قَصِيدَتِهِ الطَّوِيلَةِ-: وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ: إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْخَلْقِ بِتَثْبِيتٍ وَقُوَّةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ. قَوْلُهُ وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرْجُو فِيهِ لِقَاءَ مَحْبُوبِهِ. فَإِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ الْتَذَّ بِهِ، كَمَا يَلْتَذُّ الْمُسَافِرُ بِتَذَكُّرِ قُدُومِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ وَيُخَلِّي السَّمْعَ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ]: أَيْ يَكَادُ يَقْهَرُ الْعَقْلَ وَيَغْلِبُهُ. فَهُوَ وَالْعَقْلُ تَارَةً وَتَارَةً. وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الشُّهُودِ لَمْ يَصْطَلِمْهُ. فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَصْطَلِمُهُ إِلَّا الشُّهُودُ. وَلِذَلِكَ قَالَ: يُغَالِبُ، وَلَمْ يَقُلْ يَغْلِبُ. وَأَمَّا إِخْلَاؤُهُ السَّمْعَ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِخْلَاءَهُ مِنْ شَيْءٍ، وَإِخْلَاءَهُ لِشَيْءٍ. فَيُخْلِّيهِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ ذِكْرَ الْغَيْرِ، وَيُخَلِّيهِ لِاسْتِمَاعِهِ أَوْصَافَ الْمَحْبُوبِ وَذِكْرَهُ وَحَدِيثَهُ. وَقَدْ يَقْوَى إِلَى أَنْ يُبْعِدَ بَيْنَ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ؛ لِانْقِهَارِ الْحِسِّ لِسُلْطَانِ الْقَلَقِ. قَوْلُهُ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ يَعْنِي: يُصَابِرُهَا وَيُقَاوِمُهَا. فَلَا تَقْدِرُ طَاقَةُ الِاصْطِبَارِ عَلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا وَلَا يُبْقِي أَحَدًا]: يُرِيدُ: أَنَّ هَذَا الْقَلَقَ لَهُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ. لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَنْ شُهُودٍ. فَإِذَا عَلِقَ بِالْقَلْبِ لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي فَنَاءِ الشُّهُودِ. وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا أَيْ لَا يَقْبَلُ حَدًّا وَمِقْدَارًا يَقِفُ عِنْدَهُ. وَيَنْقَضِي بِهِ، كَمَا يَنْقَضِي ذُو الْأَمَدِ. فَإِنَّهُ حَاكِمٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، مَالِكٌ لِلْقَلْبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ. وَلَا يُبْقِي أَحَدًا أَيْ يُلْقِي صَاحِبَهُ فِي الشُّهُودِ الَّذِي تَفْنَى فِيهِ الرُّسُومُ وَتَضْمَحِلُّ. فَلَا يُبْقِي مَعَهُ عَلَى أَحَدٍ رَسْمَهُ حَتَّى يُفْنِيَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: الْعَطَشُ: وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ قَطْعًا. وَإِنَّمَا الْقَوْمُ مُولَعُونَ بِالْإِشَارَاتِ. وَإِلَّا فَالْآيَةُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ. أَيْ أَهَذَا رَبِّي؟، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى وَجْهِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ. فَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْمُوَافِقِ، لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ. ثُمَّ تَوَسَّلَ بِصُورَةِ الْمُوَافَقَةِ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ نَاقِصًا آفِلًا. فَإِنَّ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَابِدِيهِ وَخَلْقِهِ وَيَأْفُلُ عَنْهُمْ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ. أَوْ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَرَاتِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعْبُودِ حَتَّى أَوْصَلَهُ الدَّلِيلُ إِلَى الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَجْهَهُ حَنِيفًا مُوَحِّدًا، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْعَطَشِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ]: الْوَلُوعُ بِالشَّيْءِ: هُوَ التَّعَلُّقُ بِهِ بِصِفَةِ الْمَحَبَّةِ، مَعَ أَمَلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ فِي حَدِّ الْوَلُوعِ: إِنَّهُ كَثْرَةُ تَرْدَادِ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُولَعٌ بِكَذَا، وَقَدْ أُولِعَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ لُزُومُ الْقَلْبِ لِلشَّيْءِ. فَكَأَنَّهُ مِثْلُ: أُغْرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُغْرًى. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْعَطَشُ. الْأُولَى: عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ. أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ. أَوْ عَطْفَةٍ تُؤْوِيهِ. وَلَمَّا كَانَ الْمُرِيدُ مَنْ أَهْلِ طَلَبِ الشَّوَاهِدِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَمُثِيرِ الْعَزَمَاتِ، وَتَعَلُّقِ الْعُبَّادِ بِالْأَعْمَالِ. وَقَوْلُهُ شَاهَدٌ يَرْوِيهِ يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ. أَيْ يَرْوِيهِ عَمَّنْ أَقَامَهُ لَهُ. فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى شَوَاهِدِ الْعِلْمِ. فَهُوَ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى شَوَاهِدَ يَرْوِيهَا عَنِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ، يَزْدَادُ بِهَا تَثْبِيتًا وَقُوَّةَ بَصِيرَةٍ. فَإِنَّ الْمُرِيدَ إِذَا تَجَدَّدَتْ لَهُ حَالَةٌ، أَوْ حَصَلَ لَهُ وَارِدٌ: اسْتَوْحَشَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا. فَإِذَا قَامَ عِنْدَهُ بِمِثْلِهَا شَاهِدُ حَالٍ لِمُرِيدٍ آخَرَ صَادِقٍ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا: اسْتَأْنَسَ بِهَا أَعْظَمَ اسْتِئْنَاسٍ. وَاسْتَدَلَّ بِشَاهِدِ ذَلِكَ الْمُرِيدِ عَلَى صِحَّةِ شَاهِدِهِ. فَلِذَلِكَ يَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ عَنِ الصَّادِقِينَ. وَيَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّيِّ- فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْيَاءِ- يَعْنِي: إِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ. وَنَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ الظَّمْآنِ. فَقَرَّرَ عِنْدَهُ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ شَاهِدُ حَقٍّ. وَيُرَجِّحُ هَذَا: ذِكْرُ الرَّيِّ مَعَ الْعَطَشِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ: ذِكْرُهُ لَفْظَةَ الرِّيِّ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ. قَوْلُهُ أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ أَيْ تَشْفِي قَلْبَهُ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ. فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ- إِمَّا مِنْ صَادِقٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ عَالِمٍ، أَوْ مِنْ شَيْخِ مَسْلَكٍ، أَوْ مِنْ آيَةٍ فَهِمَهَا، أَوْ عِبْرَةٍ ظَفِرَ بِهَا-: اشْتَفَى بِهَا قَلْبُهُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ. قَوْلُهُ أَوْ إِلَى عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ أَيْ عَطْفَةٍ مِنْ جَانِبِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، تَرْوِي لَهِيبَ عَطَشِهِ وَتُبَرِّدُهُ. وَلَا شَيْءَ أَرَوَى لِقَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ. وَلَا شَيْءَ أَشَدَّ لِلَهِيبِهِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إِعْرَاضِ مَحْبُوبِهِ عَنْهُ. وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ عَنْهُمْ: أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ. كَمَا أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ- بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ- أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ.
|